وجهة نظر: تراجع نفوذ الأنظمة الاستبدادية في أنحاء العالم
١١ سبتمبر ٢٠٢٢
توجد طرق عدة للنظر إلى العالم ما بين رؤية العالم وكأنه مجموعة من الأشياء المرتبطة ورؤية العالم وكأنه مجموعة من العمليات تتحرك معا على الدوام وهو ما تحدث عنه وليام شكسبير في مسرحيته يوليوس قيصر "المد والجزر في شؤون الرجال".
ففي عام 2016، ظهرت العديد من الأنظمة الشعبوية والاستبدادية في أوروبا. ففي تقلب كبير، صوتت المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي أو ما عُرف بـ "البريكست" فيما جرى انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة.
وشرقا، عمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إحكام قبضته على اقتصاد أوروبا والنخب بها فيما كان يمضي الزعيم الصيني شي جين بينغ على نحو هادئ قدما في إحكام سيطرة حزبه الشيوعي على مناحي الحياة اليومية في الصين.
وعلى وقع ذلك، بدا المستقبل يميل لصالح الأنظمة السلطوية بشكل جلي.
بيد أن العد العكسي لهذا التوجه قد أنطلق في الوقت الحالي وهناك ثلاثة أحداث وقعت بشكل متزامن في الأسابيع القليلة الماضية تؤيد هذا الاستنتاج.
البداية كانت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى جزيرة تايوان وسط فشل الصين في منعها رغم إحداث بكين الكثير من الضجيج حيال تداعيات الزيارة.
وردا على الزيارة، قامت الصين بإجراء تدريبات عسكرية قبالة الجزيرة.
أما الحدث الثاني فيتمثل في التفجيرات التي طالت قاعدة ساكي الجوية الروسية في شبه جزيرة القرم فيما يكمن الحدث الثالث في مداهمة مكتب التحقيقات الفيدرالي لمنزل ترامب في فلوريدا.
الرد الصيني
لم يكن أي مراقب على دراية جديدة بالأوضاع في آسيا يتوقع أن تبدأ الصين في قرع طبول الحرب بسبب زيارة مسؤول أمريكي لجزيرة تايوان حتى أن المعلقين الصينيين رغم الضجيج الذي أثاروه عقب الزيارة إلأ أنه قد ظهر عليهم الاندهاش من تسرع واندفاع الحكومة الصينية فيما يعد سلوكا استثنائيا داخل العملاق الأسيوي الذي يُعرف بتخطيطه الجيد للأجيال القادمة.
وقبل عشر سنوات، كان الغرب يحاول عدم إغلاق اقتصادياته في أزمات الديون المالية والسيادية فيما كانت الصين في الوقت نفسه تُصوَر نفسها باعتبارها "النموذج المستقبلي" للاقتصاد العالمي بالتزامن مع سيطرة قوة الصين "الناعمة"تدريجيا على آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وحتى البلقان.
تراجع ازدهار الصين
بيد أن أي مؤرخ جدير بالاحترام سوف يقول إن الدكتاتورية والازدهار الاقتصادي والنفوذ الدولي لا يمكنهم الاستمرار معا لفترة طويلة إذ من المفترض أن تضعف الديكتاتورية أو يتلاشى الرخاء أو يقل النفوذ. وهذا الأمر ما طرأ على الصين إذ أنه مع تنامي قوة الديكتاتورية فقد تضاءل ازدهارها ونفوذها. فاليوم، تقر الصين بأن ديونها بلغت 250٪ من إجمالي الناتج المحلي فيما يجب الإشارة إلى أن اليونان قد أعلنت إفلاسها عندما بلغت ديونها نسبة 127٪ من إجمالي الناتج المحلي.
كذلك يحذر الخبراء في الشؤون الصينية من وجود "دين خفي" يبلغ حوالي 44٪ من الدين الذي أقرت به الحكومة فيما بلغت ديون بلدان المنطقة 350٪ من إجمالي الناتج المحلي وهو ما يعد أمرا لا يُصدق ولا يتحمل في الوقت نفسه.
ومع عدم قدرة عشرات المصارف في المقاطعات الصينية على خدمة العملاء، جرى إرسال الدبابات للدفاع عن المصارف خوفا من العملاء الذين باتوا في حالة غضب شديدة.
حشد الدعم لكن بشكل عدواني
يتزامن هذا مع سعي شي جين بينغ إلى إعادة انتخابه أمينا عاما للحزب الشيوعي، لكن لا يمكنه تحمل فكرة أن يترشح لهذا المنصب في الوقت الذي يُنظر إليه باعتباره السياسي الذي شاهد إفلاس الاقتصاد. وإزاء ذلك، فقد قرر أن يحذو حذو بوتين ويعمل على حشد الدعم لكن بسلوك عدواني.
وإزاء ذلك، لم نعد نرى الصين الدولة الواثقة بأن المستقبل يصب في صالحها وإنما نرى نظاما استبداديا فاشلا بات على شفا الهلع.
فشل مجموعة بريكس
ويقدم التفجير الذي استهدف قاعدة ساكي الروسية في شبه جزيرة القرم تصورا مماثلا عن موسكو.
فقبل عشر سنوات، بدأت الصين تسلك طريقها لأن تكون القوة الاقتصادية العظمى في المستقبل فيما بدأت روسيا تسلك طريقها لتكون قوة جيوسياسية ذات نفوذ كبير لدرجة أنها استطاعت تدشين تحالف "مجموعة بريكس" الذي يضم بالإضافة الى الصين وروسيا كلا من البرازيل والهند.
وتمثل الهدف المعلن لهذا التحالف في إنهاء الهيمنة الأمريكية على مستوى العالم في مجال التكنولوجيا المتقدمة فضلا عن العمل على تقويض المكانة الدولية للدولار الأمريكي من خلال تدشين عملة خاصة ببلدان المجموعة.
تزامن هذا مع بدء سيطرة "القوة الناعمة الهجينة" لروسيا على السياسة والثقافة والإعلام في القارة الأوروبية.
لكنه بحلول عام الفين وعشرين، بات من الواضح أن بلدان البريكس فشلت في تحقيق الأهداف المعلنة فلم تستطع أن تستحوذ على مكانة الأمريكيين في مجال التكنولوجيا المتقدمة بل واخفقت في مزاحمة الدولار الأمريكي.
تضاءل قوة روسيا الناعمة
وفي سياق متصل، بدأ فشل القوة الناعمة لروسيا فقد خسر ترامب الانتخابات الرئاسية أمام بايدن فيما تراجعت الأحزاب الاستبدادية والشعبوية والتي حظيت بتمويل من بوتين.
ففي عام 2017 ، فاز إيمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية الفرنسية ضد مارين لوبان، التي يُنظر إليها باعتبارها حليفة بوتين فيما جرى تقويض حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف على يد حزب الخضر خلال الانتخابات الإقليمية في ولاية بافاريا حيث أصبح الخضر ثاني أقوى حزب رغم التوقعات عن تحقيق حزب البديل فوز كبير.
وفي عام 2019، استقال هاينز كريستيان شتراخه، زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا، من منصبه كنائب للمستشار النمساوي بسبب فضيحة فساد.
وفي بولندا والمجر ، بدأت الأنظمة تفقد السيطرة على المدن الكبرى في الانتخابات المحلية فيما لم تفز الأحزاب اليمينية المتطرفة في الانتخابات الأوروبية عام 2019.
حلفاء بوتين في أوروبا يفقدون نفوذهم
وشهدت الأعوام الماضية، مساعي الأوروبيين في إزاحة حلفاء بوتين من السلطة واستبدالهم بتحالفات تضم أحزاب ليبرالية ومن الخضر ففي عام 2021 خسر اليمين المتطرف البرلمان في بلغاريا حيث اختار الناخبون تحالفا يضم أحزاب الوسط والخضر فيما انتخبت ألمانيا حكومة ائتلافية تضم الحزب الاشتراكي والخضر والليبرالي.
وعندما أدرك بوتين تلاشي قوته الناعمة في بلدان العالم المتحضر، لجأ إلى قوته الصلبة باعتبارها الخيار الوحيد لكي يؤثر من خلالها على التغيرات الجيوسياسية.
وكان الرابع والعشرين من فبراير/ شباط الموعد للبدء في استخدام القوة الصلبة لروسيا حيث كانت تقوم خطة بوتين على إخضاع أوكرانيا في غضون أيام ومن ثم يتجه غربا للبدء في إعادة رسم حدود الدول الأوروبية فيما كان يرمي إلى تحقيق الأهداف التي فشل في تحقيقها عبر القوة الناعمة ولكن هذه المرة على ظهر الدبابات.
روسيا لم تحقق نصرا سريعا في أوكرانيا
بيد أن نتائج الحرب لم تصب في صالح خطط بوتين ففي أغسطس / آب، فقد الجيش الروسي المبادرة وتحول إلى اتخاذ مواقع دفاعية فيما كشفت الانفجارات في شبه جزيرة القرم عن أن روسيا لا يمكنها الدفاع عن مواقع تمركز قواتها بالشكل السهل فيما يبدو أن الترجيحات تشير إلى أن روسيا في طريقها لخسارة هذه الحرب.
وبعد كل ذلك، أصبحت قوة روسيا الصلبة موضع للسخرية في العالم فيما فقدت قوتها الناعمة فلم تعد روسيا تمتلك اقتصادا قويا يدعم قوتها الناعمة.
وعلى إثر ذلك، نشهد في الوقت الحالي نهاية فكرة "العالم الروسي" و "النموذج الصيني" حيث أصبح جليا أننا نعيش في عالم ديمقراطي ليس مضطرا أن يعيش في كنف هذه النماذج التي لا تتقدم بل تتراجع.
ترامب يواجه اتهامات جنائية
أما في الولايات المتحدة، فتدل مداهمة عناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي لمنزل ترامب على تضاؤل خطر الاستبداد داخل العالم الديمقراطي.
فقبل عشر سنوات، بدت الولايات المتحدة التي تعد بمثابة معقلا للديمقراطية، تترنح على حافة الهاوية إذ انتخب ترامب الذي كان يقدر الديكتاتوريين في جميع أنحاء العالم، في عام 2016 رئيسا للبلاد.
وعلى إثر ذلك، شعر الناس بالقلق من أن أمريكا كانت في طريقها لأن تكون "نموذجا استبداديا"، لكن اليوم لم يعد ترامب في البيت الأبيض بل أصبح يواجه تهما جنائية.
صربيا والمجر
وفي أوروبا، استوعبت بلدان معادلة الاستبداد والإجرام إذ لم يعد في القارة اليوم سوى نظامين استبداديين على رأس السلطة أحدهما في صربيا والآخر في المجر.
ففي صربيا، يبدو أن الرئيس ألكسندر فوتشيتش يحاول الخروج من عباءة روسيا فضلا عن تضاؤل قوته السياسية.
وفي المجر، لم يعد الرئيس فيكتور أوربان يروج لنموذج "الدولة غير الليبرالية" الذي يطمح في تدشينه في البلاد بل أصبح بمثابة مدير للمبيعات الخارجية لشركة غازبروم في أوروبا في موقف ليس مناسبا لسياسي مستبد ذات نفوذ قوي فيما يُتوقع ألا يحصل على دعم سكان المجر كما فعل سكان بلغاريا بإزاحة رئيس الوزراء بويكو بوريسوف بعد 12 عاما في السلطة.
العد العكسي
وفي ضوء هذه المعطيات، فإن مداهمة منزل ترامب لا ترسل رسالة واحدة مفادها أن الوقت السياسي لهؤلاء القادة ممن على شاكلته قد ولى ولكن أيضا تبعث برسالة تؤكد زوال مستقبلهم السياسي.
لكن سيبقى قادة مثل بوتين وشي جين بينغ وممن على شاكلتهما لفترة طويلة، لكن أسلوب حكمهم لن يكون له مستقبلا.
والآن أصبح المستقبل في أيدينا ويتعين علينا الاستفادة من هذا العد العكسي من أجل تأمين مستقبل يظل فيه الشعب مصدر الحكومة ما يعني أن الشعب يمتلك اليد العليا.
إيفجيني داينوف
*إيفغيني داينوف، الكاتب والمحلل السياسي وأستاذ العلوم السياسية في الجامعة البلغارية الحديثة في صوفيا.