الموقف الألماني من الأزمة الأوروبية – إملاءات أم حزم مطلوب؟
١٨ ديسمبر ٢٠١١أعلنت الكثير من وسائل الإعلام الأوروبية والدولية فشل قمة بروكسل التي عقدت يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين (12-13 ديسمبر/ كانون الأول 2011)، واعتبرت أن هذه القمة لم تخرج بحلول للأزمة الاقتصادية التي لا تزال تعصف بمنطقة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو). كما وعادت بعض الصحف الأوروبية إلى اللعب على أوتار الماضي، من خلال وصف الموقف المتزمت للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنه محاولة لفرض هيمنة ألمانيا من جديد في أوروبا.
وزاد من حدة هذه الانتقادات موقف ميركل من رفض رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون للقرارات التي تضمنتها القمة الأوروبية، خاصة تلك الداعية إلى تنظيم القطاع المصرفي – هذا القطاع الذي يشكل جزءاً مهماً من الدخل القومي البريطاني. ومن ناحية أخرى، أثار الموقف البريطاني استياء لدى دول الاتحاد الأوروبي، مما قد يهدد لندن بعزلة في أوروبا.
"زلزال سياسي واقتصادي"
ملف الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو وتقييم التوجه الألماني كانت مثار النقاش في برنامج "كوادريغا"، الذي تبثه قناة "دويتشه فيله عربية" في إطار سلسلة برامجها الحوارية الأسبوعية. وحول تقييمها للوضع الحالي، أكدت سلام سعيد، الخبيرة الاقتصادية المقيمة في ألمانيا، أن الاتحاد الأوروبي يمر بمرحلة جديدة بسبب الاختلافات الكثيرة حوله، مضيفة أن هناك "احتمالات كبيرة بفشل الاتحاد الأوروبي أو عودته عدة خطوات للوراء في مشروع التكامل الاقتصادي".
من جانبه شبه أنيس أبو العلا، مراسل قناة "العربية" الإخبارية في أوروبا، الوضع في أوروبا حالياً بـ"الزلزال السياسي والاقتصادي"، ويشير أن ذلك سببه الرؤية التي تتبناها أنجيلا ميركل، التي تعبر في ذات الوقت عن الموقف الألماني برمته. ويضيف أبو العلا أن كون ألمانيا من "الدول الأساسية في الاتحاد الأوروبي والثقل الخطير للمستشارة يجعل (لهذا الموقف) أبعاداً عميقة داخل أوروبا".
لكن مراسل "العربية" في أوروبا استدرك بالقول إن موقف ميركل في قمة بروكسل الأخيرة اتسم بالوضوح والابتعاد عن التخبط، كما كان في السابق، مضيفاً أن القمة شهدت ميركل "قادرة على صياغة القرارات وفرضها على دول أوروبا. نحن نشهد الآن أوروبا جديدة. لكن الطريق محفوف بالمخاطر".
حلول للمستقبل البعيد وليس القريب
ومن بين أهم هذه المخاطر التهديد بانشقاق معسكر من الدول الأعضاء رافض لما جاءت به هذه القمة، بدءاً ببريطانيا، التي انضمت إليها جمهورية التشيك لاحقاً. هذا المعسكر الرافض قد يجرّ إليه، بحسب أبي العلا، دولاً أخرى، مما قد يهدد بانهيار الاتحاد الأوروبي. إلا أن الخبيرة الاقتصادية سلام سعيد لا ترى أي تغيير جذري في مواقف ميركل، مشيرة أن الحزم الظاهر في مواقفها هو نتيجة الضغط الذي تفرضه المرحلة الحالية، الذي دفعها لاتخاذ القرارات التي تمت مناقشتها، بالاتفاق – طبعاً – مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قبل انعقاد القمة.
أما مدير معهد الاقتصاد واللغات في مدينة هامبورغ الألمانية، فتحي فرانس-ماتيس، فيعتقد بأن قرارات قمة بروكسل لم تصحح أياً من الأخطاء التي قادت الأزمة، ورأى فيها نوعاً من العقوبات "ضد الدول التي تعاني من أزمة ديون. فكيف يمكن لهذه الدول تحمل العقوبات المفروضة عليها من قبل القرارات الجديدة؟ ينبغي مساعدة هذه الدول وليس معاقبتها".
ومن بين أهم ما طالبت به قمة بروكسل تعديل اتفاقية ماستريخت، التي أرست دعائم الاتحاد الأوروبي وحولته إلى ما هو عليه الآن، بالإضافة إلى توحيد السياسات المالية والاقتصادية والضريبية للدول الأعضاء، والحد من مديونية الدول عن طريق الادخار. وفي هذا الصدد يؤكد أنيس أبو العلا أن الادخار ليس حلاً لإنعاش الاقتصاد، مطالباً الدول الأعضاء بفتح أبواب الاستثمار وتشجيع الاستهلاك المحلي كوسيلة لإنعاش الاقتصاد.
وعاب مراسل "العربية" في أوروبا على المستشارة الألمانية دعوتها إلى الادخار، معتبراً أن ذلك غير ممكن بالنسبة للدول التي تعاني من مديونية عالية. وعلى ذلك عقبت سلام سعيد بالقول إن الأزمة الحالية كشفت خللاً في "هيكلية تطور الاتحاد الأوروبي. فهو أصبح اتحاداً نقدياً وليس مالياً. هذا غير كاف. ورغم أن قرارات قمة بروكسل تهدف إلى معالجة هذا الخلل الهيكلي، إلا أنها لا تحل أزمة مديونية دول اليورو".
بريطانيا ومعسكر الرافضين لمواقف ميركل
وبالعودة إلى الموقف البريطاني أكدت سعيد أن خوف رئيس الوزراء كاميرون من دعوة ميركل إلى إشراك القطاع الخاص والمصارف في تحمل تكاليف الأزمة مبرر للغاية، لأن لندن تتخوف من هروب المصارف منها في حالة موافقتها على هذه المطالب، الأمر الذي سيكون له أثر سلبي للغاية على الدخل القومي للبلاد ونموها الاقتصادي. ورأت سلام سعيد أن بريطانيا تحاول من خلال رفضها لقرارات قمة بروكسل حماية مصالحها، مثل ألمانيا وفرنسا اللتين تحاولان حماية مصالحهما من خلال إشراك أكبر عدد ممكن الدول الأعضاء في المساهمة في تحمل تكاليف الأزمة الاقتصادية.
لكن هل يدفع هذا الخوف والتضارب في الآراء ببريطانيا إلى التفكير في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي؟ الصحفي أنيس أبو العلا لا يتوقع ذلك، مضيفاً أن المفاوضات جارية على قدم وساق خلف الستار من أجل إقناع لندن بوجهات النظر الألمانية والفرنسية. وأشار أبو العلا إلى أن كل الدلائل والتحليلات لا تتوقع خروج بريطانيا من الاتحاد لا في المستقبل القريب أو البعيد.
وتتوقع الخبيرة الاقتصادية السورية سلام سعيد أن تساهم المصارف البريطانية في تحمل العبء المالي من أجل الخروج من الأزمة الحالية، في حال قررت الحكومة البريطانية التوقيع على تغيير معاهدة ماستريخت. لكن أبو العلا توقع بأن السيناريو القادم، حتى انعقاد القمة الأوروبية المقبلة في مارس/ آذار المقبل، سيشهد محاولة كل دولة أوروبية تكريس مواقفها أمام الدول الأخرى وداخل أروقة المنظمات الأوروبية، وذلك دعماً لمصالحها الفردية. لهذا فهو يطالب برؤية واضحة وقرار حاسم في المرحلة القادمة من أجل تجنب تباطؤ النمو الاقتصادي المتوقع في العام القادم.
من جانبها تشير سلام سعيد إلى أن هدف المستشارة الألمانية الرئيس من خلال القمة كان تهدئة أسواق المال العالمية وإرسال إشارات طمأنة تحد من انخفاض قيمة السندات الحكومية لدول اليورو. وتتوقع أن تشهد المرحلة القادمة مفاوضات حثيثة للتوصل إلى صيغة تعيد التوازن إلى المنطقة قبل انعقاد القمة الأوروبية في مارس/ آذار القادم، مشيرة إلى أن الصراع "سيكون حول من سيخسر أكثر، فلكل حل تكاليفه، والمعضلة هي من سيدفع الحصة الأكبر من هذه التكاليف. وهنا سيكون للدول القوية اقتصادياً كألمانيا نفوذ أكبر من دول أضعف مثل فرنسا أو أسبانيا".
التشاؤم سيد الموقف
وأثارت هذه القضية نقاشاً ساخناً بين المشاركين في النقاش الحر والمفتوح على صفحة "دويتشه فيله" في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، إذ برغم التشاؤم السائد في مواقف المشاركين، ودعوة أغلبهم إلى وقف التعامل باليورو والعودة إلى العملات المنفصلة، يتوقع بعضهم أن تكون الأزمة الحالية أزمة عابرة وأن يحصل تحسن واضح في اقتصادات أوروبا على المدى الطويل.
من جانبها ترى المشاركة Boshra Abu Farha أنه "لا توجد حلول سريعة. حتى حلول التقشف والديون اليونانية تحتاج عشرات السنين (لكي يحصل توازن) حسب علمي.. هذه أزمة اقتصادية وليست أنفلونزا موسمية ... أعتقد إذا لم تساعد الحكومة الألمانية مثيلاتها في اليونان فإن الأزمة ستتكاثر لبقية الحكومات".
أما المشارك Mikel Majde فيطرح حلاً أكثر تخصصاً، إذ يقول إن على أوروبا "البحث عن مصادر جديدة للمعادن للقيام بالصناعات، وأفضل حل وأجده الحل الجوهري أن تقوم دول أوروبا ببيع المعادن باليورو أفضل من شرائها بالدولار، لأنه بذلك يكون اليورو معتمداً على قيمة الدولار. يجب تجاوز هذا العائق، وهذا سيحل المشكلة من جذورها إذا وافقت أمريكا على هكذا حل!".
وفيما يتعلق بالحلول المرتبطة بالمصارف يعتبر المشارك Ashraf Alaghi أن الحل يجب أن يبدأ "بخفض مرتبات مدراء ونواب ورؤساء مجالس مصارف الدول المتعثرة. ثانياً فرض ضرائب قد تصل إلى 80% على مكافآتهم السنوية. ثالثاً إنشاء لجان وهيئات أوروبية مستقلة تراقب خطط الإنعاش الاقتصادي للدول المتعثرة، بدون أن تتدخل في سياساتها الداخلية، وتكون وظيفتها إشرافية على هذه الإجراءات المالية، لمنع أصحاب النفوس الفاسدة من سرقة هذه الأموال الممنوحة للإنعاش الاقتصادي، ومنعهم من استغلال نفوذهم التنفيذي والقيادي".
وبرغم التشاؤم الواضح في المواقف الشعبية والمتخصصة، فإن الآمال تبقى معقودة على القمة الأوروبية التي ستعقد في مارس/ آذار المقبل، والقرارات التي ستأتي بها. وهنا يبقى الدور الألماني أساسياً لدفع هذه القرارات والمساهمة في إبعاد المنطقة الاقتصادية الأوروبية عن حافة الهاوية.
ياسر أبو معيلق
مراجعة: حسن زنيند