"خارت قواي ولم يعد لدي رغبة في الحياة"
تبدو شواخصه الخرسانية البالغ عددها 2711 شاخصة تحت الشمس وكأنها لعبة "ليغو" بعثرها طفل وأعاد ترتيبها من جديد على صندوق مليء بالرمال. ومن الجو يبدو وكأنه مقبرة تسود فيها عدالة اجتماعية مطلقة، إذ أن جميع القبور متساوية تماما في الطول والعرض ( كل قبر يبلغ عرضه 95 سنتم بالضبط وعرضه 238 سنتم). هذا هو "نصب الهولوكاوست" التذكاري الذي افتتح اليوم الثلاثاء في العاصمة الألمانية برلين بعد أكثر من 17 عام من المد والجزر والتأخير والخلافات والفضائح.
مكان من الدرجة الأولى
ويقع النصب التذكاري البالغة مساحته 19000 متر مربع في قلب العاصمة الألمانية بين معلم المدينة التاريخي بوابة براندنبورغ وساحة "بوتسدامر بلاتس" وعلى مسافة قريبة من مقر البرلمان الألماني "بوندستاغ". من الجدير بالذكر أن النصب شُيد فوق ملجأ وزير الدعاية أبان الحقبة النازية يوزف غوبلز وليس بعيدا عن ملجأ الزعيم النازي آدولف هيتلر. أما بين عامي 1961 و1989 فقد مر بهذا المكان خط جدار برلين الذي فصل بين شطري برلين الشرقي والغربي. إذاً لا تقتصر أهمية هذا النصب على بناءه في وسط العاصمة الألمانية، بل أنه شُيد في مكان يكتظ بأماكن تاريخية لها معان كبيرة عند الألمان: في الجهة الغربية تمتد حديقة "تير غاردن" وفي الجهة الشمالية بدأت أعمال بناء السفارة الأمريكية وتم مؤخرا افتتاح مبنى أكاديمية الفنون، إضافة إلى فندق "آدلون" الفاخر والسفارة البريطانية. وفي الجهة الجنوبية تم تشييد ممثليات الولايات الألمانية هيسن وشليسفيغ هولشتاين وساكسونيا السفلى.
وحضور رفيع المستوى
وشارك في مراسم الافتتاح بجانب الرئيس الألماني هورست كولر شخصيات رفيعة المستوى مثل المستشار الألماني غيرهارد شرودر ورئيس البرلمان الاتحادي فولفغانغ تيرزه ومصمم النصب بيتر آيزينمان ورئيس مجلس اليهود الأعلى في ألمانيا باول شبيغل وصاحبة المبادرة الصحفية الألمانية ليا روش. واستبق رئيس البرلمان الألماني تيرزه أمس فعالية الافتتاح بالإعراب عن ارتياحه من افتتاح النصب بعد 17 سنة من المناقشات. وقال تيرزه إن "بناء النصب لا يعني إنهاء النقاش بخصوص التاريخ الألماني، بل أن أحد أهدافه هو زيادة الاهتمام بالماضي." أما مصمم النصب المهندس الأمريكي بيتر آيزينمان فقد قال إنه يأمل في أن يكون النصب "مكانا للأمل والهدوء والتأمل." من جانبها قالت صاحبة المبادرة روش إن القائمين على الفكرة "أرادوا أن يعيدوا إلى الملايين من الموتى أسماءهم."
غرف الذكريات
ويعتبر جناح المعلومات من أهم مرافق النصب التي تقدم معلومات عن عناء اليهود في معسكرات الاعتقال النازية. ومن أجل الوصول إلى مرافق مركز المعلومات يجب على الزائرين المرور بمعبر ضيق يطلعون فيه على جرائم النازيين في أوروبا. ويتكون هذا المكان من أربع غرف، الأولى هي غرفة الأبعاد والثانية غرفة العائلة والثالثة غرفة الأسماء والرابعة غرفة الأمكنة. وفي حين يمكن للزائرين الإطلاع في غرفة الأبعاد على ذكريات اليهود في معسكرات الاعتقال، يتعرفون في غرفة العائلة على مصائر 15 عائلة يهودية عانت من فضائع النازيين أبان الحقبة النازية. أما غرفة الأسماء فيمكن التعرف فيها على 800 سيرة ذاتية ليهود لقوا حتفهم في معسكرات الاعتقال. وفي غرفة الأمكنة يعرض القائمون على المشروع 200 مكان لوحق فيها يهود أوروبا أو قتلوا فيها. فعلى سبيل المثال يحصل الزائر في هذه الغرفة على معلومات عن سبعة معسكرات اعتقال وأماكن القتل الجماعي.
"لم يعد لدي رغبة بالحياة"
هذه فقط عبارة واحدة من العبارات المسطرة على أرضية غرفة الأبعاد التي تمتلئ جدرانها وأرضيتها برسائل يأس خطها رجال ونساء قبل تعرضهم للإبادة في معسكرات "أوشفيتس" أو "داخاو" أو"زاكسين هاوزين". ومن بين الرسائل المؤثرة كذلك كانت رسالة الصغيرة يوديث (12 عاما) التي كتبتها لولدها وتقول فيها:" والدي العزيز، بهذه الكلمات أريد أن أودعك قبل أن يأتي الموت. نريد أن نبقى على قيد الحياة، ولكنهم لن يسمحوا لنا بذلك. سنموت قريبا." أما جدران هذه الغرفة فتمتلئ بأعداد اليهود الذين قتلوا في أوروبا: 77100 في فرنسا، 300000 في هنغاريا، 145000 في ليتوانيا، وقرابة المليون في روسيا، وزهاء الثلاثة ملايين في بولندا.
ناصر جبارة