عماد الدين حسين: النخبة السياسية المهلهلة
١٥ مارس ٢٠١٨قبل أسبوع واحد من فتح باب الترشح للانتخابات الرئاسية المصرية، أعلن أحد السياسيين أن الحزب الذي ينتمي إليه سوف يرشح الفريق سامي عنان لرئاسة الجمهورية. يومها ظهر هذا السياسي في العديد من برامج "التوك شو" الليلية، معدداً مميزات عنان. وطوال أسبوع كامل، ظل يردد هذه المميزات، ويكشف عن تفاصيل الترشح والاستعدادات الفنية خصوصاً عملية جمع التوكيلات الشعبية، كما أكد هذا السياسي خلال تلك الأيام على أن أوراق عنان سليمة تماماً.
نعرف ما حدث بعدها حيث تم التحفظ على سامي عنان والتحقيق معه في ثلاث تهم، منها عدم الحصول على إذن من القوات المسلحة التي ما يزال ينتمى إليها، ومخالفة الأوامر العسكرية بإعلان ترشحه دون إذن مسبق من القوات المسلحة، والتزوير في محررات رسمية، وأخيراً الفتنة في تصريحات تلفزيونية، يعاقب عليها بباب جرائم الفتنة والعصيان في القانون العسكري.
في نفس هذا اليوم قام السياسي الذي كان مؤيداً قبلها بساعات لعنان بالتبرؤ منه تماماً، بل واتهمه بأنه كان ينسق مع جماعة الإخوان، من خلف ظهر الحزب.
ليس كل ما سبق هو الجزء المثير في القصة. قبل أيام كنت أسير في منطقة "وسط البلد" بالقرب من ميدان التحرير، حيث شاهدت لافتة قماشية ضخمة، معلقة في قلب الشارع، وفيها يعلن هذا السياسي تأييده التام للمرشح الرئيس عبدالفتاح السيسي لفترة رئاسية ثانية.
قد يسأل سائل: ولماذا لا تذكر اسم هذا السياسي؟!
الإجابة ببساطة، لأن الهدف من هذه الكتابة بأكملها ليس موضوعاً شخصياً، بل محاولة لرصد ظاهرة غريبة في الحياة السياسية المصرية، وربما تكون هناك أسرار اطلع عليها هذا السياسي جعلته يغير موقف بصورة كاملة.
هذا السياسي ليس هو الوحيد الذي فعل ذلك، لكن آخرين كرروا هذا السلوك بصورة أو بأخرى منذ سنوات، وحتى الآن، وبالتالي فليس هدفي من هذه الكتابة التشهير بالشخص بل مناقشة الظاهرة.
ربما يكون السؤال المنطقي هو: ما الذي يدفع بعض السياسيين للتنقل والتقلب بين المواقف السياسية التي تبدو متناقضة؟!
رأينا أحزاباً سياسية عريقة وأخرى ناشئة تعجز عن تقديم أي مرشح رئاسي، حتى ولو من باب تدريب كوادرها للسنوات المقبلة.
يفترض أن إحدى الوظائف الأساسية لأي حزب سياسي هي المنافسة في كل أنواع الانتخابات من أول الأندية الرياضية والنقابات مروراً بالمحليات والنواب نهاية بالانتخابات الرئاسية.
في مصر 104 أحزاب سياسية، بعضها قديم جداً مثل الوفد الذي تأسس عام 1919، وبعضها حديث جداً تأسس بعد ثورة 25 يناير 2011. لكن للأسف الشديد لم نشعر بها خلال الفترة الماضية.
سيقول البعض، ولكن الحكومة تقوم بحصار هذه الأحزاب وتضيق عليها الخناق، ولا تترك لها ولو هامش قليل للتنفس!
سنفترض أن ذلك صحيح أو حتى بعضه، لكن نكرر السؤال بطريقة أخرى وهي: هل تعتقد الأحزاب أن ممارسة السياسة بهذه السهولة، في بلد مثل مصر يمر بفترة انتقالية صعبة، وهل تعتقد الأحزاب أن الحكومة ستقول لها: "آسفون هيا وتعالوا لكي تحكموا بدلاً منا"؟!!!
لن أخوض كثيراً في المأساة التي تمر بها معظم الأحزاب المصرية، لكن موضوعي اليوم هو بعض النخبة التي تنتقل بين الأحزاب والأفكار والمواقف المتناقضة من دون أن يرمش لها جفن!
مرة أخرى تتحمل الحكومة جانباً من المسئولية، لكن الجانب الأكبر تتحمله النخبة الحزبية، إذا اتفقنا أن هناك نخبة بهذا المعنى!
هناك في بعض الأحزاب المصرية سياسيون مثاليون ونبلاء وأنقياء، لكنهم يبقون أفراداً في جزر منعزلة، في حين أن الغالبية العظمي من النخبة الحزبية تعانى من أمراض مزمنة ومستعصية. بعضهم يريد أن يكون معارضاً شكلاً لينال الوجاهة الاجتماعية والسياسية "البرستيج"، لكن قلبه معلق بالحكومة، كي يضمن ألا تغضب منه، وتنقلب عليه.
جزء من هذه النخبة أيضاً لديه مصالح اقتصادية كبيرة مع الحكومة، ويخشى إذا دخل في خلاف معها، أن تتأثر هذه الأعمال، وبالتالي فهم يفضلون "السير بجانب الحائط، أو ربما داخله" إيثاراً للسلامة.
في تقديري فإن فساد وترهل هذه النخبة هو الذي يدفع جماهير كثيرة للانصراف عن العملية السياسية، لأنهم يصابون بالإحباط واليأس، حينما يسمعون شعارات كبيرة وفضفاضة، من هؤلاء السياسيين في وسائل الإعلام المختلفة، ثم يتفاجؤون بأن سلوكهم الفعلي على أرض الواقع مختلف تماماً. وبالتالي تنصرف هذه الجماهير عائدة إلى "حزب الكنبة" الأشهر على الإطلاق في مصر منذ عشرات السنين باستثناء فترات قليلة، عادت الروح فيها للحياة الحزبية بعد ثورة 25 يناير، ثم انتكست حينما استيقظ المصريون على واقع مرير وهو أن الأحزاب الدينية سيطرت على البرلمان بمجلسيه وكذلك منصب رئيس الجمهورية.
وجود رموز سياسية محترمة وصاحبة مبادئ وتضحى من أجل ما تؤمن به ،هو الذي قد يساعد في إعادة الروح للعملية السياسية، ويعيد الجماهير للانضمام إلى هذه الأحزاب، ويمنع أمثال السياسي الذي بدأنا به الحديث من الظهور أو تكرار ما فعله.
وبالطبع فإنه لا يمكن أن يتم ذلك من دون حد أدنى من هامش حرية، يسمح بتعدد الأصوات والأفكار تحت مظلة القانون والدستور والدولة المدينة.
عماد الدين حسين
* المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة عن رأي مؤسسة DW.