أعطنا خبزنا كفاف يومنا
٨ يونيو ٢٠١٠كثيراً ما يربط اسم ألمانيا ببعض التداعيات والصور النمطية، فألمانيا مثلاً رمز الجودة وعلامة made in Germany دليل على ذلك، وألمانيا أيضاً رمز التفوق العلمي، فالجامعات الألمانية تقف وراء التفوق الصناعي للبلد، كما أن البعض _وللأسف_ يربط ألمانيا حتى الآن بالنازية. ومن المؤكد أن ألمانيا بلد النشاط والعمل من هنا يمكن الانتقال إلى أحد أهم الصور النمطية عن ألمانيا، والتي قد لا يعرفها من لا يعرف البلد جيداً: ألمانيا بلد الخبز.
المخبز أحد أهم معالم المدينة
قلما يبدأ نهار ألماني من غير خبز، وقلما يوجد حي أو حتى شارع بلا مخبز، فالمخبز هو عنصر مهم في الحياة اليومية في ألمانيا، وللخبز حظ وافر من الراتب الغذائي. فبعد تجاوز فترة الصباح التي لا تمر دون تناول الخبز، لا بد من احتساء القهوة بعد الظهر وتناول نوع من المعجنات الحلوة. وعند انتهاء النهار لا بد من تناول العشاء الذي يسمى في ألمانيا "خبز المساء". من الواضح إذن أننا هنا أمام أحد أهم الصناعات الألمانية، والتي أثرت وتأثرت بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية الألمانية في العقود المنصرمة.
البداية: بضعة أنواع فقط
في فترة الخمسينات وعند خروج ألمانيا من حرب طاحنة، أدت موجة الجوع والفقر إلى حالة استعداد لأكل أي نوع من الخبز، وبذلك لم يكن تنوع الأصناف أمراً غاية في الأهمية. يتذكر أغلب المسنين في ألمانيا ذلك ويقولون إنهم لم يعرفوا بطفولتهم إلا بضعة أصناف من الخبز أهمها الخبز الأبيض والخبز الأسود والخبز الرمادي والخبز السويسري. تتميز هذه الأنواع عن بعضها البعض حسب نوع الحبوب المستخدمة ونوع الخميرة ومدة الخبز.
الخبز الأبيض مثلاً _وهو شبيه بالخبز الفرنسي_ يتميز بأنه يصنع من القمح ويحتوي على الخميرة العادية مما يجعله هشاً من الداخل وسريع الجفاف. أما الخبز الرمادي فغالباً ما يصنع من الشليم ويحتوي على مزيج من الخميرة العادية والخميرة الحمضية مما يعطيه قواماً ليناً وممتلئاً من الداخل ويجعله بطىء الجفاف وقابلاً للتخزين لمدة أطول. أما الخبز الأسود وهو النموذج الأكثر نمطية وشهرة للخبز الألماني فيصنع من القمح الكامل وأنواع أخرى من الحبوب ويحتوي على الخميرة الحمضية فقط، كما أن خبزه يستمر لساعات طويله، والنتيجة تكون خبزاً شديد التماسك، بني اللون، ويمكن تخزينه لفترة طويلة.
أما أهم ما يميز شكل الخبز في تلك المرحلة عن يومنا هذا فهو الحجم الكبير، حيث أنه قلما كان يخبز العجين أكثر من مرة واحدة في الأسبوع.
انفراج الوضع الاقتصادي أدى إلى تنوع الخبز
في فترة الستينات بدأت الحالة الاقتصادية في ألمانيا تتعافى من آثار الحرب وترافق ذلك مع انفتاح على البلدان الأخرى وثقافاتها في الطعام، وانعكس ذلك طبعاً على صناعة الخبز، ومن الأصناف القليلة التي كانت موجودة سابقاً نشأت مئات الأصناف الجديدة ليصل عددها كما يقال إلى 300 صنف مختلف من الخبز.
وهكذا راحت المخابز تتنافس مع بعضها البعض لكسب الزبائن من خلال ابتكار خلطات جديدة واستقدام أنواع من الخبز لم يكن الألمان يعرفها من قبل، فبين الباغيت الفرنسي والتشاباتا الإيطالي والبيغل الأمريكي بالإضافة إلى الرغيف التركي _الذي كسب مؤخراً شعبية كبيرة_ وعشرات بل مئات الأصناف المحلية أصبح على الزبون الآن الاختيار.
و لم يقتصر الأمر على ضم أصناف خبز من بلدان أخرى وإنما تعدى ذلك إلى تهجين أنواع مختلفة مع بعضها للخروج بأصناف جديدة لم تكن موجودة من قبل. فها هو السيد شيفر من المخبز الذي زرناه في مدينة بون يطلعنا على أحد الابتكارات ألا وهي صنف هجين بين خبز الباغيت الفرنسي وخبز التشاباتا الإيطالي.
فترة الـ Bio أحدث مراحل المنافسة
تعدد الأصناف وتتجاوز الثلاثمائة، وأصبح الابتكار لعبة قديمة، فانتقلت المنافسة لكسب الزبائن إلى حيز جديد، وراحت بعض المخابز تسعى إلى التميز عن منافسيها من خلال استخدام مكونات طبيعية والابتعاد عن استخدام المواد الحافظة والملونة والمنكهة، وذلك لتتناسب مع موجة الحياة الصحية التي بدأت تسود العالم في الآونة الأخيرة. ومن الملفت للنظر الآن هو التفاوت الكبير في أسعار الخبز وتعلقها بعلامة Bio التي تدل على استخدام المواد الطبيعية الخالصة. حيث أصبح بالأمكان شراء الصنف نفسه في أحد المتاجر بسعر ما، أو بضعف أو ضعفي السعر في متجر آخر. والآن قلما يقف الزبون حائراً أمام أصناف الخبر المتنوعة، وإنما أمام خيار آخر متعلق بسعر الخبز، فللصحة ثمنها أيضاً، وليس كل من يرغب بالمحافظة على صحته ينجح في ذلك. وهكذا أصبحت صناعة الخبز تجني الأموال ليس فقط بالاعتماد على الكمية وإنما النوعية، أية نوعية؟ ربما نوعية الزبائن، الذين غالباً ما يكونون من ميسوري الحال ليتمكنوا من شراء خبز شهي، طازج، ويعد متناوله بصحة جيدة.
كتابة: ميسون ملحم
مراجعة: عبدالرحمن عثمان