العدو في المرآة...تصفية بن لادن تعكس تخبطاً أخلاقيا في الشرق والغرب
١٠ مايو ٢٠١١المستشارة الألمانية ميركل مبتهجة. والرئيس فولف يهنئ. وأوباما يتحدث عن العدالة، وبضع مئات من الأمريكيين يهللون أمام ورشة البناء في "غراوند زيرو". هل هذا هو الغرب الذي يعتقد أنه يستطيع أن يعطي العالم العربي دروساً في التحضر؟
لم يكن بن لادن في العالم العربي يوماً الأيقونة التي كان الغرب يعتقد أنه يجسدها. لقد كاد الزمن أن يتجاوز أيديولوجيته تماماً خلال أجواء التغيير الثوري التي يشهدها العالم العربي في الشهور الأربعة الماضية. ولكن بقتله دون حكم قضائي فإن الولايات المتحدة تُعيد صورة القاعدة السائدة في العالم إلى مكانتها في العالم العربي مرة أخرى. وربما تحتل مكانة أكبر من السابق.
بالطبع: بالنسبة إلى كثيرين من العرب فإن حياة بن لادن لا تساوي كثيراً، تماماً مثلما كانت الرسائل التي يبثها بالفيديو غير مهمة بالنسبة لأغلبيتهم. هناك موضوعات أهم في هذه الأيام. غير أن اللهجة التي يتحدث بها المرء عن بن لادن تغيرت منذ مقتله.
وبمناسبة القتل: إنهم يتكلمون في العالم العربي عن "اغتياله"، أي القتل بدافع سياسي، أو عن "استشهاده" أي عن القتل الذي يُدخله الفردوس على الفور. لا عجب إذن أن يتزايد فجأة عدد من يطلق على بن لادن "الشيخ أسامة". في معظم البلدان العربية ينم لقب "شيخ" عن الاحترام. الشيخ هو الشخص العالم بأمور الدين، وليس الخارج عن الدين الذي يستخدم الإسلام لإغراضه السياسية والذي يلطخ بالأوحال سمعته البيضاء.
"الله يرحمه!"
ولكن كيف يكتب الصحفي عن مقتل بن لادن لوسائل الإعلام الغربية بدون أن يساوي بين ردود الأفعال العربية الهائلة التنوع؟ هل يستشهد المرء بالتعليقات المنشورة على صحفة "الجزيرة" الإليكترونية والتي تجعل شعر الرأس يقف؟ مِن "الله يرحمه"، وصولاً إلى "إذا كان قد مات بالفعل فكلنا بن لادن"؟ أم يستشهد المرء بأقوال عرب كثيرين يقولون بالحرف الواحد ما يود الغرب سماعه؟ مثلاً ما جاء في صحيفة "الوفد" الحزبية المصرية التي تصف بن لادن ببساطة بأنه نقطة سوداء على الثوب الإسلامي، وتأمل الصحيفة أن يكون هذا الفصل قد انتهى إلى غير رجعة.
كلا الموقفين موجودان، وكلاهما موجود بكثرة. الجديد هو أننا نسمع تلك الآراء الإيجابية عن بن لادن ليس فقط ممن تعودنا على سماعها منهم، بل أيضاً من مواطنين عاديين متوسطي التدين يرون في بن لادن مناضلاً في سبيل الحق. كلا، ليس بسبب ضربات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول. بل بسبب انتقاده لعائلة الملك السعودي، وبسبب تضامنه مع القضية الفلسطينية واستغنائه عن ثروة عائلته.
هذه المجموعة التي لم يتوقعها المرء من الحزانى لا تكره الغرب بأكمله، كما أنها لا تساند برعونة الضربات التي تستهدف المدنيين. غير أن أفراد هذه المجموعة يُظهرون حالياً تضامنهم مع إنسان منهم – وهم هكذا ينظرون إلى بن لادن – قُتل بواسطة وحدة خاصة أرسلتها دولة لم يعد المرء ينتظر منها خيراً.
ربما يقع هذا الكلام موقعاً فظيعاً على الأذن الغربية، ولكن بن لادن لم يُنظر إليه في العالم العربي أبداً على أنه مفكر ومهندس الإرهاب الدولي الذي يقتل الناس بدم بارد.
لقد كان في عيونهم هو الإنسان الذي يظهر بين الحين والآخر، طوال سنوات، على شاشة الجزيرة . رجل يتحدث بصوت هادئ رزين ويتمتع بكاريزما خاصة – رجل يتحدث لغة عربية فصيحة تأخذ بألباب كثيرين. لم ير الجمهور الغربي من كل ذلك شيئاً. مجرد مقتطف من كلامه يُذاع هنا أو هناك، مُنتزع من سياقه حتى لا يثير في نفوس السامع سوى الخوف.
اختلف العرب حول بن لادن، وانتقدوه، وقارنوه بشخصيات أخرى مكروهة. غير أنهم يعرفون أنه تحدث عن التحول المناخي مثلما تكلم عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وأنه قدم عدة مرات عروضاً للولايات المتحدة تبدو في الأصل العربي مقنعة تماماً.
سلسلة من التناقضات
ويتجلى الآن كل التجلي أن كثيرين من المسلمين العرب لم يحددوا أبداً علاقتهم بابن لادن تحديداً واضحاً: إن عدداً غير قليل ما زال يدعي أن بن لادن كان يعمل لصالح جهاز المخابرات الأمريكي (سي أي أيه) وبالتالي فهو غير متورط بصورة شخصية وراء ضربات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول – غير أنهم في الوقت نفسه، وبعد دقيقة واحدة من قولهم ذلك، يبررون دوافعه الأخلاقية للقيام بهذه الضربات تحديداً.
إنه رد فعل عاطفي، وقليلاً ما يكون رداً عقلانياً. خلف رد الفعل هذا لا يكمن موقف أخلاقي، بل خليط من التضامن مع شخص مسلم والانتقائية في الرؤية. وفق هذه الانتقائية يتم التهوين من جرائم المجموعة التي ينتمي إليها الفرد، وذلك عبر الإشارة إلى جرائم الآخرين.
إنه رد فعل مشابه لرد الفعل الذي يظهره الأمريكيون والأوروبيون عندما يهللون لقتل إنسان بدون حكم قضائي، وذلك عبر الإشارة إلى أن المقتول تسبب في قتل آلاف من الأبرياء.
وهكذا يَثبت الخصوم المزعمون أنهم متشابهون: ليس فقط المتعاطفون مع القاعدة هم الذين، يعتبرون العنف وسيلة سياسية ناجعة. عديدون من الغرب يتبنون هذا الرأي، ولكن في مواقف مختلفة – وغالباً بدون أن يعترفوا لأنفسهم بذلك.
وبهذا المعنى فإن مقاطع الفيديو التي يرى فيها المرء على اليوتيوب الأمريكيين المهللين هي نوع من رؤية الذات. الفارق هو أن الفلسطينيين هم الذين كانوا في الغالب يهللون لمقتل مستوطنين إسرائيليين. إنها الصور القادمة من العالم العربي التي يعرفها عديد من مواطني الغرب ويعتبرونها عن حق صوراً بشعة.
غير أن الأجواء متشابهة بين الذين يهتفون "أمريكا" على أفلام الفيديو، وأولئك المتطرفين الإسلامويين الذي يصيحون "الله أكبر". ليست الكلمات هي المشكلة، بل ما تثيره من مشاعر.
الرؤية بعين واحدة
كلا الجانبين يستطيع بكل سهولة فضح الإزدواجية في المعايير الأخلاقية التي يتسم بها الطرف الآخر. وربما يكون لدى كل طرف الحق، غير أنه يكون متورطاً بسبب تذبذب مواقفه، ولذلك لا يعود هناك مجال للحديث حول أن يكون المرء على صواب، فأن تكون على صواب يفترض إلقاء القبض على بن لادن ومحاكمته، وأن يُسمح له بالتكلم، وأن نُظهر ماذا تعني دولة القانون.
عندئذ كنا ربما سنعرف من هو. هل هو متعصب، أم إنسان مثالي ضل الطريق؟ أم أنه مجرم يقتل الناس بدم بارد؟ من يعرف الحقيقة! وهكذا تبقى عدة صور في الرأس، صور للمناضل الشاب في أفغانستان، لرجل بلحية يختلط فيها الشعر الأسود بالرمادي وفي يده كلاشنيكوف. وهو ما يكفي لجعله أسطورة. والولايات المتحدة قامت بكل شيء ممكن حتى تظل هذه الصورة تحديداً هي الباقية.
لو كان أُصيب بفشل كلوي لكان لذلك أثرٌ كبير على القاعدة، إذ أن حتى العقل المدبر للإرهاب يُصاب بأمراض الشيخوخة ويموت.
ولكن ما حدث الآن هو أن وحدة أمريكية خاصة قامت بتقديم أكبر جميل ممكن له: لقد تحول إلى شهيد. "سأموت إنساناً حراً"، هكذا أكد بن لادن في شريط صوتي للقاعدة من عام 2006. وبمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية تحقق له هذا الهدف.
شتيفاني دوتسر
ترجمة: صفية مسعود
مراجعة: لؤي المدهون
حقوق الطبع: قنطرة 2011