تحليل: معضلة رفع العقوبات الغربية غير المسبوقة عن سوريا
٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤أدت الحرب التي دامت نحو 14 عاما وتبعاتها إلى انهيار غير مسبوق للاقتصاد السوري ومقوماته. هذه الحرب التي بدأت في ربيع عام 2011 عقب اندلاع الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الرئيس السابق بشار الأسد أدت إلى تقليص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تزيد على 80 بالمائة، من نحو 68 مليار دولار عام 2010 إلى نحو من 9 مليارات دولار فقط عام 2023. ويعكس هذا التراجع دمار واسع في للصناعة والزراعة والبنى التحتية وحرمان البلاد من ثرواتها النفطية والغازية. وعلى إثر ذلك تدهور متوسط الدخل الشهر إلى أقل من 30 دولارا بعدما كان يتراوح بين 200 إلى 400 دولار أوائل عام 2011. وهو الأمر الذي أدى إلى انتشر الفقر لدرجة أن 7 من كل عشرة سوريين يحتاجون اليوم للمساعدة من أجل توفير الحد الأدنى من الغذاء والدواء والمأوى حسب مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية توم فليتشر. ولم يقف التدهور عند هذا الحد، فقد هاجر ولجأ إلى الخارج من ويلات الحرب القسم الأكبر من أفضل الكوادر في مجال الطب والهندسات والأيدي العاملة الماهرة في مختلف المهن والحرف. ففي ألمانيا وحسب المكتب المركزي الألماني للاحصاء على سبيل المثال يعمل اليوم 300 ألف سوري بينهم نحو 80 ألف لا تستطيع القطاعات والخدمات التي يعملون بها الاستمرار في أداء مهمامهم كالمعتاد بدونهم.
عقوبات اقتصادية غربية غير مسبوقة
إن تدمير الاقتصاد السوري ومقومات حياة السوريين تعود بالدرجة الأولى إلى الحرب وتبعاتها. وزاد الطين بلة الفساد الرهيب والسياسة الاقتصادية القاصرة لنظام الرئيس السابق بشار الأسد. غير أن الوضع الاقتصادي ما كان ليصل إلى هذا المستوى من التدهور لولا العقوبات الغربية غير المسبوقة المفروضة على جميع قطاعات الاقتصاد السوري بما فيها جميع البنوك والخدمات الأساسية. ويرى خبراء أمثال ديلاني سابمون، كبير المحليين في مجموعة الأزمات الدولية "أن سوريا واحدة من أكثر الدول تعرضا للعقوبات في العالم". وعلى الرغم من استثناء الأغذية والأدوية منها، فإن واقع الحال يقول أنه لا يمكن أو من الصعب جدا استيرادها بشكل مباشر لأن الحظر يشمل التحويلات المالية عبر البنوك السورية.
قانون قيصر الذي زاد الطين بلة
خلال السنوات الثلاثة عشرة الماضية تم تشديد العقوبات أكثر من مرة. وجاء التشديد الأقسى بموجب "قانون قيصر 2019 " من قبل قبل الإدارة الأمريكية. وحسب القانون لم تعد العقوبات مفروضة على قطاعات الاقتصاد والخدمات السورية وحسب، بل تشمل الشركات والأشخاص الذين يتعاملون مع قطاع الأعمال السوري والكيانات الإيرانية والروسية العاملة في سوريا بغض النظر عن جنسيتهم. وعلى ضوء إحجام الشركات الأجنبية حتى في الدول الصديقة للنظام السابق عن التعامل مع سوريا خوفا من الملاحقات الأمريكية تم شل قطاع التجارة الخارجية السوري والاستثمار والإنتاج الصناعي والزراعي تقريبا، لاسيما وأن الدولة كانت تسيطر على أكثر من 60 بالمائة من التجارة الخارجية وأن الاقتصاد السوري كان مرتبطا بالغرب بنسبة حوالي 70 بالمائة قبل اندلاع الحرب في عام 2011.
أمثلة على فداحة تأثير العقوبات
من الصعب جدا تقدير تأثير العقوبات الغربية على الاقتصاد السوري ومستوى حياة السوريين بسبب تداخل تبعاتها مع تبعات الحرب والفساد. غير أن بضعة أمثلة على ذلك قد تقدم صورة أولية عما آلى إليه الوضع بعد "قانون قيصر"، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه من الاجحاف تحمل القانون المسؤولية الكاملة عن التدهور لأن استشراء الفساد والأعمال الحربية استمرت حتى بعد دخوله حيز التنفيذ في صيف 2020. على صعيد الأمثلة كان الدولار الأمريكي يعادل في عام 2019 حوالي 500 ليرة، غير أنه قفز في غضون سنتين بعد تطبيق القانون، أي في عام 2022 إلى نحو 15000 ليرة سورية. وفيما يتعلق بأسعار المواد الغذائية والأدوية فقد ارتفعت أسعارها خلال السنوات الثلاث الماضية بنسبة تراواحت بين 130 إلى 170 بالمائة. أما عن النقص في أغذية الأطفال والأدوية والأجهزة الطبية فحدث ولا حرج. وبالنسبة إلى الكهرباء فبعد أن كانت تأتي 3 ساعات كل 3 ساعات أضحت اليوم لا تأتي أكثر من ساعتين على مدى 24 ساعة بسبب نقص الوقود اللازم لمحطات التوليد. الجدير ذكره أن العقوبات تطال قطاع النفط ومصادر الطاقة بشكل أقسى من معظم القطاعات. وحسب تقرير لبرنامج الغذاء العالمي فإن نسبة الذين يعاونون من الجوع ارتفعت بشكل أسرع خلال السنوات القليلة الماضية لتصل إلى أكثر من 55 بالمائة من مجمل السكان.
السلطة الجديدة أمام تحدي رفع العقوبات
في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 سقط نظام الرئيس السابق بشار الأسد وسيطر تحالف من التنظيمات الجهادية المسلحة برئاسة "هيئة تحرير الشام" التي كانت تابعة لتنظيم القاعدة على السلطة في سوريا. وعلى اثر ذلك ارتفعت في لندن وواشنطن وبروكسل ونيويورك الأصوات المطالبة برفع العقوبات الغربية عن سوريا أو بتخفيفها كونها كانت مفروضة ضد النظام السابق. غير أن معضلة التعامل مع الهيئة والشروط التي يتم الحديث عنها تشير إلى أن رفعها لن يكون في الأمد القريب. بالنسبة للاشكالية تكمن في أن الولايات المتحدة ودول عديدة أخرى تصنف "هيئة تحرير الشام: كمنظمة إرهابية. كما أن الأمم المتحدة تصنفها كذلك وتفرض عقوبات عليها. وتحظر القوانين الأمريكية وفي الدول الغربية التعامل مع الجماعات الإرهابية، وعلى ضوء ذلك ينبغي أولا وقبل كل شيء إزلة الهيئة من لوائح الإرهاب قبل طرح موضوع رفع العقوبات عن الطاولة. وحسب صحيفة نيويورك تايمز فإن إزالة التصنيق الإرهابي الذي فرضته الولايات المتحدة والأمم المتحدة على هيئة تحرير الشام سيكون ورقة للتفاوض والمساومات. ومن المرجح أن ذلك لن يتم بين ليلة وضحاها.
شروط واشنطن وبروكسل لرفع العقوبات
غير أن تصريحات مسؤولين في واشنطن وبروكسل وعواصم غربية أخرى تفيد أن من شروط رفع العقوبات أيضا مدى التزام السلطة الجديدةفي دمشق بتطبيق معايير التعددية السياسية وحقوق الإنسان والمرأة وحماية الأٌقليات على حد تعبير مسؤولين كبار في مجلس الشيوخ الأمريكي . وقال السناتور كريس مورفي الذي يرأس لجنة الشرق الأوسط في المجلس أنه "من المبكر التفكير في رفع العقوبات نظرا إلى تاريخ المعارضة فيما يتعلق بالعلاقات مع الإرهاب، لكنه أكد على التواصل مع السلطات الجديدة سوريا". وذهبت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إلى أبعد من ذلك بالقول "إن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون مستعدا لرفع العقوبات إذا اتخذت السلطة الجديدة خطوات إيجابية نحو تشكيل حكومة ممثلة لجميع الفئات واحترام حقول المرأة والأقليات مضيفة أن العديد من وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي طالبوا سوريا أيضا بالتخلص من النفوذ الروسي بما في ذلك القواعد العسكرية في سوريا" كأحد الشروط لرفع العقوبات.
تخفيف العقوبات بدلا من رفعها؟
إن تأكيد العواصم الغربية على استمرار العقوباتفي الوقت الحاضر لا ينبغي أن يغلق الباب على وضع استثناءات تخفف من وطأتها كما حصل بعدما ضرب زلزالا مناطق سورية متعددة في فبراير/ شباط من العام الماضي 2023. وهو الأمر الذيأكد عليه عضوان كبيران في الكونجرس الأمريكي، جو ويلسون الذي يرأس لجنة الشؤون الخارجية المعنية بالشرق الأوسط في المجلس وزميله برندان بويل الذي يترأس مجموعة أصدقاء سوريا. فقد حث كلاهما في رسالة مشتركة الرئيس جو بايدن على تعليق بعض العقوبات بهدف تخفيف الضغوط على اقتصاد سوريا المنهار". وتصب تصريحات العديد من المسؤولين الأوروبيين أيضا في هذا الاتجاه، غير أن السؤال المطروح يتعلق بالمدى الذي سيذهب إليه التخفيف المذكور خلال الأسابيع القادمة؟ غير أن قراءة أولية للتصريحات الصادرة بهذا الخصوص تفيد بأن أي تخفيف للعقوبات سيستهدف توفير الأغذية والأدوية وتحسين الكهرباء وبعض الخدمات الأخرى. وهو الأمر الذي ينبغي أن يحظى بالأولوية حاليا. أما رفع العقوبات بشكل كامل وبالشكل الذي يسمح بإعادة الإعمار وتدفق رؤوس الأموال العربية والأجنية فقد يستغرق سنوات، إي إلى أن تتضح الصورة من خلال وضع دستور للبلاد وتشكيل حكومة منتخبة تلبي مطالب المجتمع الدولي بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254 المتعلق بوقف العمليات العسكرية والتوصل إلى تسوية سياسية.
فرصة رفع العقوبات بشكل نهائي
وعليه فإن الكرة الآن في ملعب"هيئة تحرير الشام" والجماعات المتحالفةمعها فيما يتعلق بتوفير الإطار السياسي والقانوني لرفع العقوبات وإعادة الإعمار، وفيما عدا ذلك فإن إعادة الإعمار ستبقى مؤجلة ومعاها تعافي الاقتصاد السوري وأي تحسن جوهري في مستوى حياة السوريين. وفي كل الأحوال وحسب صحيفة نيويورك تايمز فإن إعادة بناء الاقتصاد السوري ستكون "مؤلمة وبطيئة لأن معظم البنى التحتية من كهرباء وطرق وصناعة الطاقة ومقومات الزراعة والصناعة في حالة خراب". ولن يغير من ذلك كثيرا ترجيح قيام تركيا من جانب واحد برفع معظم العقوبات من جانب واحد استعدادا لإرسال شركات البناء التركية لأخذ أكبر نصيب من كعكة إعادة البناء تمهيدا لتعزيز نفوذها الاقتصادي بما يتناسب ونفوذها السياسي القوى على السلطة الجديدة في سوريا.