مصير مرفأ بيروت بين تضييع الوقت ودخول الصينيين على الخط
٩ أغسطس ٢٠٢٠في ضيعتي الصغيرة النائية والغافية على حضن جبال الشعرة الشاهقة جنوب شرق اللاذقية السورية كنت أسال والدي عن الجنة وأنا في سن الطفولة. أما إجابته فكانت باختصار "هناك يا بني تجد كل ما تتمناه من الأنوار والطعام والشراب والجمال ومتطلبات الحياة الرغيدة".
وعندما وصلت بيروت للمرة الأولى عام 1973 وأنا في سن المراهقة قلت لنفسي لا بد وأن هذه هي الجنة التي وصفها لي والدي الراحل. وطأت قدمي جوهرة الشرق الاقتصادية آنذاك حوالي الثانية فجراً. كان ذلك في قلب المدينة حيث ساحة الشهداء المعروفة بساحة البرج الشهيرة. كانت أشجار النخيل تهيمن على الساحة المتلألئة وفي صدرها تسطع أنوار سينما الريفولي الشهيرة وحولها متاجر الذهب والفضة ومراكز الصرافة والموضة والسيارات الفارهة والمطاعم والمقاهي المزدحمة بأناس وجنسيات من كل حدب وصوب وكأننا في عز الظهر.
يومها وقفت مصدوماً ومندهشاً لدرجة أنني بدأت أعد السيارات ولم أكن أتخيل أن هناك أمكنة لا تنام بهذا الشكل. ويمكنني القول أن هذه الصورة عن بيروت ترسخت في ذهني وساهمت في تغيير مجرى حياتي.
هل نقول الوداع لباريس الشرق؟
اليوم وأنا استرجع هذه الصورة الوردية تبدو بيروت الجنة أو باريس الشرق كما كانوا يسمونها آنذاك أشلاء ممزقة لا تكاد تنبض بشيء يُذكر من صخبها المعهود بعد انفجار مستودع نترات الأمونيوم الذي دمر المرفأ وألحق الأضرار الفادحة بنصف أحيائها وبنيتها التحتية. ومن المآسي الإنسانية الكثيرة التي خلفها هذا الانفجار آلاف الضحايا من جرحى وقتلى ومفقودين ومشردين. ويُقدر عدد الذين فقدوا سكنهم بنحو ثلث مليون شخص بسبب الدمار الذي لحق بالبيوت والأبنية. أما الخسائر الاقتصادية التي لم يتم حصرها حتى الآن فقد تزيد على 10 مليارات دولار.
أما الخسارة التي لا تقل فداحة عن ذلك فتتمثل إضعاف الثقة بلبنان كوجهة استثمارية وسياحية بعدما كشف الانفجار عن هول الفساد والاستهتار واللامبالاة التي تنخر في جسد الدولة اللبنانية. بالنسبة للاقتصاد اللبناني الذي يتخبط في أسوأ ازمة اقتصادية ومالية منذ قيام الدولة الحالية، يعني ذلك من ضمن ما يعنيه فقدان ما تبقى من شرايينه الحيوية القليلة بعد شلل السياحة التي أكملت عليها جائحة كورونا والضربة غير المسبوقة التي تعرض لها القطاع المصرفي الأكثر حيوية للبنان.
ويدل على أهمية المرفأ المدمر أن 70 بالمائة من تجارة لبنان وفي مقدمتها القمح والطحين والأغذية الأخرى كانت تمر عبره. كما أنه مرفأ عالمي الوزن يتعامل مع 300 مرفأ في العالم ما يجعله أحد أهم نقاط مرور البضائع وتخليصها وإعادة توجيهها في حوض شرق البحر المتوسط. وهو الأمر الذي يدر سنويا على الخزينة اللبنانية مئات الملايين من الدولارات التي يحتاجها لبنان اليوم أكثر من أي وقت مضى.
شريان حيوي حتى خلال الحرب
لا تكمن أهمية مرفأ بيروت فقط في كونه ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد اللبناني، بل أيضاً لأنه أحد أهم مرافئ حوض شرق المتوسط بسبب موقعه الاستراتيجي القريب من التقاء القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا. وإذا ما عدنا إلى التاريخ فإن هذا المرفأ نشأ لسوريا ولبنان أواخر القرن التاسع عشر.
وقد لعب حتى سبعينات القرن الماضي دوراً هاماً للعراق ودول عربية أخرى في منطقة الخليج كالكويت والسعودية، فقسم كبير من وارداتها الأوروبية من مواد البناء والإنشاء والسلع الاستهلاكية وغيرها كانت تمر عبره. وحتى في عز الحرب الأهلية اللبنانية وخلال الأزمة السورية لم يتوقف هذا الدور التاريخي الذي يشمل ايضاً غالبية دول حوض شرق المتوسط.
ومن هنا فإن أضرار تدمير المرفأ ستطال هذه الدول لاحقاً وخاصة سوريا التي اعتمد قطاعها الخاص عليه في الاستيراد والتصدير بسبب العقوبات الغربية على المرافئ والبنوك السورية. وتقدر مصادر القطاع الخاص السوري الاضرار التي لحقت ببضائعه جراء الانفجار بنحو مليار دولار.
حذاري من انتظار أموال المانحين
لا يمكن تصور بيروت مزدهرة بدون مرفأها، فإذا ما عدنا مجدداً إلى التاريخ فإن الفضل في تحوّل المدينة من بلدة صغيرة أوائل القرن الماضي إلى حاضرة اقتصادية إقليمية يعود بشكل أساسي إلى المرفأ الذي ربطها بكل أنحاء العالم وجعلها قبلة تجارية ولوجستية.
ومن هناك ينبغي إعطاء الأولوية القصوى لإعادة بناءه بسرعة قياسية كي لايتحول زبائن المرفأ إلى مرافئ أخرى مجاورة في قبرص وتركيا واليونان وإسرائيل وغيرها ويفقد لبنان ما تبقى من دوره التجاري والخدمي لعموم منطقة الشرق الأوسط. ومن ضرورات هذه السرعة أيضاً تأهيل هذا المرفق الحيويي للمساهمة في إعادة بناء سوريا والعراق لاحقاً وبشكل يدر على لبنان مئات الملايين من الأرباح سنويا.
وهنا لا بد من الانتباه إلى خطورة تدويل التحقيق في خلفيات الانفجار وانتظار انعقاد مؤتمرات المانحين الدوليين وجولات المفاوضات الشاقة مع صندوق النقد الدولي حتى يتم البدء بإعادة البناء، لأن التجربة تظهر أن الاتفاق على شروط منح أموالهم وصرفها يستغرق سنوات ما يعني فوات الأوان. كما أن مثل هذه الأموال وكما أظهرت تجربة إعادة بناء وسط بيروت بعد الحرب الأهلية غذت عملية استفحال شرور الفساد وتوسيع نطاقة في مؤسسات الدولة اللبنانية بما فيها المرفأ الذي ما كان ليأكل هذه الضربة لولا هذه الشرور.
ميزة الاعتماد على الخبرة الصينية؟
أما بدائل الانتظار فمتاحة وفي مقدمتها بالطبع بدائل وطنية تعتمد على شراكات عالمية في إطار مشاريع مشتركة طويلة الأجل. كما يمكن الاعتماد على الشركات الصينية المتخصصة التى تعتمد حتى الدول الغربية على خبرتها في بناء وتحديث وتشغيل المرافئ منذ أكثر من عشر سنوات.
وقد قامت هذه الشركات التي تبدي منذ سنوات اهتمامها بتوسيع مرفأت بيروت خلال هذه الفترة ببناء وتحديث وتشغيل أكثر من 40 ميناء عالمي بكفاءة عالية وبتكلفة تزيد على 46 مليار دولار. ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر لونغ بيتش الأمريكي وبيرايوس اليوناني وجوادار الباكستاني وكوانتان الماليزي ومرافئ أخرى مثل جيبوتي وحيفا.
وتقوم الصين بتشغل هذه المرافئ في حالات كثيرة على أساس تقاسم الأرباح بموجب عقود بناء وتشغيل ونقل ملكية BOT تترواح مدتها بين 20 إلى 25 سنة ومن بعدها تنتقل الملكية من الجهة التي استثمرت إلى الدولة الأم المستضيفة. وتُعد السرعة القصوى في الإنجاز أهم ميزة للشركات الصينية مقارنة بغالبية نظيراتها الغربية.
ومن بين الأمثلة التي يمكن سوقها في هذا الإطار ما يردده خبراء ألمان ومفاده أن الصين بنت 8 مطارات دولية وشغلتها منذ بدء ألمانيا ببناء مطار برلين الدولي الجديد والذي لم يبدأ تشغيله حتى الآن. وإذا ما نظرنا إلى واقع لبنان الاقتصادي الحالي بمديونيته الخيالية للغرب ولصندوق النقد الدولي وعجزه عن الوفاء بأقساط الدين، فإن الاعتماد على خبرات صينية يبدو الخيار الأنسب لإعادة تأهيل مرفأ بيروت وازدهار مدينته التي تقطع حالتها القلب هذه الأيام.
إبراهيم محمد