"ضد الخطب" ـ عبد الوهاب المؤدب على خطى فولتير
٢٩ أبريل ٢٠٠٧عبثا تحاول الثقافة الدينية الأرثوذوكسية، بسننيتها الإكراهية، أن تخرس صوت الفكر الحر، الذي ميز أيضا ولقرون طويلة الثقافة الإسلامية. هذه الثقافة التي لم تنتج فقط ابن حنبل وابن تيمية ولكن أيضا فيلسوفا مثل الكندي وشاعرا مثل أبي نواس وكاتبا مبدعا مثل ابن المقفع ومتصوفا من قامة الحلاج أو ابن عربي الذي جاهر في التجليات بالقول بأنه يجد أحيانا من القديسين الطيبين في الكنائس والبيع اليهودية، ما لا يجده في المساجد حين تمتلئ بالحاقدين. الكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب، كرس أغلب كتبه للدفاع عن النهج التنويري في الثقافة الإسلامية، الذي يحاول التيار السلفي حجب معالمه وإخراس صوته والحط من شأنه. وكان للعمليات الإرهابية التي ضربت الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر وقع الصدمة عليه. دفعته إلى حشد أسئلته ومراجعة الكثير من اليقينيات التي تؤبد تبعية العقل العربي لتقليد ديني مستقيل، فجاء كتابه "مرض الإسلام" الذي عرف نجاحا كبيرا، ليس فقط بسبب أسئلته التي يطرحها ولكن أيضا لجرأته في خدش نرجسية الإنسان العربي، وفضح أمراضه وتشريح عقد النقص لديه، قبل أن يصدر مؤخرا كتابه "ضدـ الخطب" الذي يذكرنا بكتابات فلاسفة الأنوار في فرنسا، وكفاحهم من أجل حرية العقل، وحرية الفرد، وحرية العقيدة.
"مرض الإسلام": التفكير في زمن التكفير
سيرا على خطى فولتير، يرى المؤدب ضرورة عرض مرض الإسلام على العقل، لأن من شأن العقل وحده أن يعري الخرافات والنزعات المتطرفة التي تتدثر برداء الدين. والمؤدب يعلن منذ الصفحات الأولى لكتابه "مرض الإسلام" أنه استعار كلمة "مرض" من فولتير حين حديثه عن المتطرفين المسيحيين. ليعرج على رواية "الدكتور فاوست" لتوماس مان، والتي ينتقد فيها توماس مان الروح البروميثية التي سيطرت على الفن الألماني بل وعلى الشعب الألماني، وكيف انتهى به المطاف إلى السقوط في الفاشية.
المؤدب يحذر من القراءة الحرفية للقرآن، التي تخرس الأبعاد الأخرى للنص، وتتعامى عن حقيقة أنه نص مفتوح ومتعدد، لأن القراءة الحرفية هي أساس التطرف. فاختزال النص في تأويل محدد، يقود لا ريب إلى إعلان بعضهم امتلاكهم لحقيقة هذا النص، ورفضهم وتكفيرهم لكل الآراء والتقاليد والتأويلات الأخرى، وهو ما عاشه الإسلام ويعيشه اليوم، كما في الصراع الدائر بين السنة والشيعة، أو كما في الحملة الوهابية على التصوف. لكن الكاتب والمفكر التونسي، ينتقد من ناحية أخرى العقلية الغربية المتمركزة على ذاتها، والتي تظل دائما مستعدة لخيانة مبادئها الديمقراطية، إذا ما اصطدمت بمصالحها. وهو يضرب مثلا بالتحالف الأمريكي السعودي، وما جره هذا التحالف على المنطقة من خراب. كما يستشهد بعالم القانون الألماني كار ل شميث وانتقاده للديمقراطية الغربية، التي تتستر خلف ستار العالمية، في حين أنها لا تسمح للشعوب الأخرى بجني ثمارها. فلا وجود لعدالة وديمقراطية وفقا لشميث إلا داخل الدول الاستعمارية، أما الشعوب الخاضعة لها، فليس لها الحق في ذلك. إذ، كما يقول:"الشعوب المستعمرة مقصية سياسيا، مندمجة قانونيا ـ فقط ـ بالمركز المستعمر".
ابن تيمية وابن رشد: إسلام ضد الإسلام
العقل، الجسد، التسامح، تلك هي الأسس التي قام عليها ودافع عنها الخط التنويري في الثقافة الإسلامية، وهي لا ريب الأسس التي ستعمل الثقافة الأرثوذوكسية، بدءا بابن حنبل ومرورا بابن تيمية وانتهاء بجهاديي الشوارع المعاصرين على محاربتها، الحط من شأنها بل ومحاولة قبرها. وحين يتحدث المفكر التونسي عن التسامح في الإسلام، يعود أساسا إلى مدرستين: مدرسة ابن عربي الروحانية وابن رشد العقلانية. ابن رشد الذي دافع في "فصل المقال" عن ضرورة وشرعية التعلم من الآخر كيفما كان عرقه أو دينه، الاعتراف بفضله إذا أصاب والتسامح معه متى أخطأ. ولهذا يرى المؤدب بأن الحركات الإسلاموية المعاصرة أكبر خطر يتهدد الإسلام كحضارة وثقافة، لأنها تغفل عن عمد دور الثقافات الأخرى في إغناءها من جهة، وتتجنب عن قصد التيار العقلاني في الثقافة الإسلامية من جهة ثانية، وتحشر، انسجاما مع قراءتها الطهرانية المريضة، كل قراءة مغايرة في خانة البدعة، وذاك شأن ابن تيمية، زاد الأصولية الذي لا ينفذ، والذي كفر المتصوفة واعتبرهم أكثر خطرا على الإسلام من المسيحيين، لأن حلول اللاهوت في الناسوت لم يحدث إلا مرة واحدة في المسيحية، في حين أنه دائم الإمكان لدى المتصوفة.
رفض الآخر هو أحد أمراض الإسلام المعاصر أما المرض الثاني في نظر المؤدب، فيتمثل في رفض الجسد، وتحقيره والحط من قدره، وعدم الاعتناء به. فالجسد في الرؤية الأصولية التمامية عورة يجب سترها، هذا الجسد نفسه الذي احتفت به الثقافة الإسلامية في عصورها الذهبية، كما تحدث عن ذلك كتاب أوروبيون كبار من مثل ديدرو في "الحلي المفضوحة" أو فلوبير في "الرسائل" أو موباسان الذي أعاد بنفسه كتابة ترجمة "الروض العاطر" للشيخ النفزاوي، بل وحتى نيتشه في "ضد المسيح" الذي انتقد طهرانية المسيحية وكتب يقول عن قرطبة بعد طرد المسلمين منها:"هنا نحتقر الجسد والنظافة، فأول ما قام المسيحيون به بعد طرد العرب هو إغلاق الحمامات الشعبية التي وصل عددها في قرطبة فقط مائتين وستين".
"ضد الخطب": شهادات على العصر
يضم الكتاب الأخير لعبد الوهاب المؤدب أكثر من مائة مقال، تتناول قضايا الساعة في العالم العربي، من عبادة الشخصية في "الجملوكيات" العربية، إلى "الخوف من البحر" في الثقافة الإسلامية، مرورا بقمع المرأة، ورفض كل أشكال المثاقفة والحوار. في أحد أهم مقالات الكتاب "عن الشرق والغرب"، يتناول المؤدب الوضع الحالي في دول شمال إفريقيا، مدافعا عن فكرة أن هذه البلدان ظلت عبر تاريخها بلدانا مفتوحة على الثقافات الأخرى، تريد الأصولية المعاصرة أن تخرس هوياتها الأخرى وأن تجعلها تنطوي على هوية واحدة أو فهم ماضوي للهوية. المؤدب يرى أن دول المغرب شرقية وغربية في نفس الآن، فأحد كبار أباء الكنيسة أوغسطينوس جزائري ودول المغرب ساهمت في الحضارة الرومانية وكانت جزءا منها، كما أن الاستعمار عمق من تلك العلاقة، خصوصا أن اللغة الفرنسية، فتحت أعين بلدان المغرب على الحداثة. الأصولية المعاصرة لا تحاول فقط تجريم الأساس الغربي للهوية المغاربية ولكن تحاول الإجهاز أيضا على الإسلام المغاربي الذي يتناقض كليا والإيديولوجية الوهابية الرافضة لكل أشكال التعدد، حتى تحت سقف الدين الواحد.
المؤدب يخص بنقده أيضا في هذا الكتاب السياسة الأمريكية الراهنة، التي تحولت عن البراغماتية إلى الإيديولوجيا مع هيمنة المحافظين الجدد على آلية صنع السياسة الخارجية الأمريكية. هذه الإيديولوجيا التي تتستر في حديثها عن ضرورة تحرير شعب مثل العراق من الديكتاتورية خلف خطاب أخلاقي، متماهية في ذلك مع المشروع الكولونيالي السابق، الذي ظل أصحابه يعتقدون بضرورة تحضير الأعراق الأخرى. ومع ذلك فإن المؤدب لا يرى التدخل الأجنبي في العالم العربي شرا مطلقا، وهو يستشهد في هذا السياق بهيغل الذي رفع قبعته تحية لنابليون حين كان يعبر وجيوشه شوارع يينا، وكيف قادت حملة نابليون ألمانيا إلى التحرر من أغلالها الروحية والانفتاح على العصر، ضدا على كاتب مثل كلايست الذي دعا باسم الوطن والأمة وباسم قيمه البروسية إلى الانتفاض ضد نابليون. فهيغل اعتقد وعن حق بأن نابليون جاء إلى ألمانيا بأفكار وقوانين جديدة ضرورية لبناء دولة حديثة تماما كما يعتقد المؤرخون بأن حملة نابليون على مصر كان لها فعل الصدمة على الشرق، الصدمة التي أيقظته من سباته العميق.